18 - 05 - 2025

ترنيمة عشق| (وشاورهم في الأمر)

ترنيمة عشق| (وشاورهم في الأمر)

هو سَيّد المُرْسَلين؛ المُوحَى إليه؛ المَعْصومُ مِنَ الْخَطَأ؛ نَضِيجُ العَقلِ وراجِحُهُ؛ سَديدُ الرّأي ومُحْكَمُه؛ المُعلِمُ؛ المُبلِّغُ؛ والمُؤَيَّدُ بالتّوْفيق والنَّصرِ الإلَهي؛ القُدوةُ؛ المُختار؛ المُصطَفى الصَّفِيّ؛ الشُّجاعُ؛ الرَّاشِدُ؛ عَلِمَ أنه ما خابَ مَن اسْتشار، وأنَّه ما شَقي عَبْدٌ قَطُّ بمَشُورة، وما سَعِد باسْتغناء رَأْي، لذا كان لَيْن العَرِيكَة؛ رقيقَ القلب؛ خُلقه التّواضع، سَمْتُه الإصْغاء لأصحابِ الاجْتهاد والرّأي المُخالِف، فكان ماحِيًا للضغائِن مِن الصّدور، ومُؤلِفًا للقلوبِ، ومُطَبِّبًا للنُّفوسِ.

أدْرَك أنَّ المَشورةَ اسْتجلابٌ لزُبْدَةِ الرّأْي الصَائِب، وخُلاصةُ خَبايا الصُّدور، فرَبَّى أصْحابَه على التّصْريحِ بآرائِهم؛ حتى لو خالفَت رأْيه، تعْويدًا لهم على التَّفكيرِ في الأُمُور العامَّة، والمُشارَكة الآكِدَة والفَعَّالة في مشاكِل الأمَّة، ولمْ يُعاقِبْ أحَدًا لخطأٍ في اجْتهادٍ، ولم يَنْهرْ فَردًا لأنَّه لم يُوافِق مَشورته وهو النَّبي الهَادِي المُرْسَل؛ الذي لا يَنْطِق عن الهَوى؛ إنْ هو إِلا وَحيٌ يُوحَى، فكانَ نَهْجُهُ رسالةً قَويةً؛ وتربيةً لأقوامٍ تأتي من بَعْده؛ أُمَراء وعُلماء ووُلاة أُمُورٍ وآَبَاء وأمَّهات؛ واجِبٌ علَيهمُ مُحَتَّمٌ أن يَسْتنوا بسُنَّته، ويتَخذوا قُدْوتَه، فالمَشورةُ طاعَةٌ للهِ، وحَقٌ للأمَّة، وحَلقةُ وصْلٍ بين الرَّاعي ورَعِيّته... لغَلقِ أبْوابِ الشّرورِ والفِتَنِ والأحْقادِ.

عَلِم صَلوات رَبِّي وسَلامُه عليه؛ انَّ الاسْتبْدادَ بالرّأي يُضَيعُ أصْحابِ العقولِ الرَّشِيدة، ويُكْرِه المُخْتارِين، ويجْعل المُضْطَرين يتمَرَّدون ولَو بَعْدَ حِين، فالنُّفوسُ خلَقَها ربُها حُرَّة، لذا قالَ عَنه "أبوهُرَيْرة": "ما رَأيت أحَدًا أكْثر مُشاوَرة لأصْحابهِ منِ النَّبي"، يُشاورُ أصْحابه فِي غَزْوة بَدْرِ- وهُو القائِد - لاخْتيار المَكانِ المُناسِب للقِتال قائلاً: "أشِيرُوا عَليّ أيُّها النَّاس".

يقولُ "الحُبَاب بن المُنْذِر": "حِين أوْقَفَ النَّبي جُيوشَه في مَكانٍ مُحَددِ؛ سألْته: "أمَنْزِلًا أنْزَلَكَهُ الله، أم هو الرَّأي والحَربُ والمَكِيدة"؟ فيقول ،-صَلى اللهُ عليه وسَلم-: "بل الرَّأي والحَربِ والمَكِيدة"، فيقول "الخَبَّاب": "ليس هذا بمَنْزِلٍ"، ويشير لمَكانٍ آخرٍ، فيُجِيبه النَّبي: "لقد أشرْت بالرَّأي"، هكذا بكلِ بَساطةِ وتواضُعِ وأدَبِ، دُونَ تَشَنّجٍ؛ لم يَر النّبي -القٌدوةُ ذوُ الخُلقِ العَظيم- أنَّ ذلك انْتِقاصٌ مِن قَدْرهِ، فلمْ يُوبِّخه أو يُعنِّفه أو يَطْرُده؛ بل وافَقه آمِرًا الجَيْش لينتقلَ إلى حَيثُ أشَارَ.

بقولٍ صَريحٍ؛ يُعلِن الحبيب البشير: "أنا لو اسْتَشرْت أبا بكرٍ أو عُمر لا أُخالِفهما"؛ انْحيازٌ واضِحٌ لأصْحابِ القُدراتِ والمواهِب والعقولِ الصَّائِبةِ، بهدفِ الإفادَة منْ أصْحابِ الهِمَمِ وحامِلي مَشاعِل الإفاقةِ والتّفكيرِ النّاهِضِ بالأمَّة، فيسْتشِيرهما في "أسْرى بَدْرٍ"، فيُرجِّحُ "أبو بكر" قَبولِ الفِدْية، ويُرجِّحُ "عُمر بن الخطاب" قَتْلَهم، فيَقْبل النَّبيّ رأي "أبي بكرٍ".

وفيما غزوة: "حمراء الأسد" يأخذُ برأيهما معًا؛ فيخرج لمُطاردةِ المُشركين دَرْءًا لعَودتهم ثانيةً للمدينةِ، ثم يتَوجَه لـ "رجالِ الاقْتِصادِ": "سَعد بن مُعاذ" و"سَعد بن عِبادة"؛ وهُما سَيِّدا أهْلِ المدِينةِ ومالِكا مَزارع التَّمْر، يَسْتفتِيهما في أمْرِ "غَطَفان" المُتحالٍفة مع الأحْزابِ؛ ليعطيها حِصَّةً مِنْ "تمرِ" المَدِينةِ؛ كي تنسَحبَ منَ الحِلفِ، فيرفُض "السَّعدان" مُصالَحَتها، فيُوافِق الرَّسولُ المُتَفَهِّمُ رَغْبَتْهِما.

في غَزوةِ "أُحُدٍ"؛ ودَّ الحبيبُ لو بَقِي جَيشهُ بالمدينة حتى يأتِي عَدُوهم فيُقاتلونَه، لكنَّ أصْحابَه يُشيرون عليه بالخروجِ، فيَنزِل على رَأيهم.

وحين يَنْصحه "سَلْمان" الفارِسيّ بحفر خَندقٍ حولَ المدينةِ؛ مُستفيدًا منْ خِبْرته القِتالية في بلاده- والتي لمْ يُجرِبها العَربُ مِنْ قَبْل- يَقْبَل القائِدُ الفَطِنُ -صَلى الله عَليه وسَلم- فَيَحْفر بِيدهِ الشَّريفة، ويَتَعَفَّر وَجْهُهُ وثَوْبُه؛ وهو يُشارِك عامَّة المُسلمين، فكانَ النَّصْر حَليفَهم.

وساعة يَدْخل "مكَّة" بالفَتحِ المُبينِ؛ يُشير عليه عَمُّه "العَباس" أنْ يجعلَ شيئًا لـ "أبي سُفيان"؛ لأنه رَجلٌ يُحِب الفَخْرَ، فيَسْتجيبُ اللَبِيبُ؛ الحَصِيفُ قائلًا: "منْ دخلَ دارَ أبي سُفيان فَهو آمِنٌ"، فيُسَرُّ "أبو سُفيان" ويرْضَى ويقْوى إسْلامُهُ.

لمَّا نزل قوله تعالى: "وشاوِرْهم في الأمْر" أدْرَك القائِد المُعلِم أنَّها دَعْوةُ رَحْمةٍ بالأمَّة، وأنَّ مَن اسْتشار لمْ يُعدَم رُشدًا، ومن تركها لم يُعدم غيًّا، وأنَّ الشّورى أصْلٌ من أُصُولِ الإسْلامِ، وهي دليل الحُرِّية، فلا يمكن لمَقهورٍ تحْت حُكمٍ مُستبدٍ أنْ يُعلن رَأيه بصَراحةٍ ووضوحٍ، وأنَّ استِمالةِ القلوب؛ ورَفْعِ قدْرِ أصْحاب العقول؛ مِنْ شأنهِ أن يَبني وطَنًا، ويُعَمِّر أرْضًا، ليُرْضي رَبًّا.

يُقيم -صلوات ربي وسلامه عليه- في "تَبوك" عِشرين يَومًا، لمْ يلْق فيها جَيشَ "الرُّوم"، فيَسَتشر أصْحابَه في التقَدمِ شَمالًا، فيُشيرون بالاكْتفاء بإفْزاع "الرُّومِ"، فذَاك هَدفُهم الرَّئيس، فيُقبل برَحَابة صَدرٍ العَودةَ؛ حِفاظًا على جَيْشه عُدَّةً وعَتادًا.

يتمسَّك بحِلْمهِ ورِباطة جَأشِه، ولا تتَفلَّتُ أعْصابُه أويَشْتَطُّ غضبًا؛ وهُم يُؤذُونَه في عِرْضِهِ وشَرَفهِ، ويُدَلِّسون ويَخوضونَ بإفْكِهم في سِيرةِ "عائِش"؛ زوجه الطاهِرة المُطَهرة؛ فَإذاهُ يستشيرُ "عليّ بن أبي طالِب" و"أُسامة بن زَيد"- رضي الله عنهما- في أخْطر الأمُور- التي إن حَلَّت برَجلٍ؛ فلن يّقْوَى على عَقْلِ انفعالاته- فيَطلب المَشورةِ في مَسألَةٍ شَديدة الخُصوصيةِ، لكنَّه يختارُ هذينِ الصَّحابِيين لشِدةِ قُرْبهما مِنْه أُسَرِّيا، ولأنَّ مَشورةَ الصَّالحين وأهل التُقى مَنْجاةٌ من الزَلَلِ، وحين يُكْرِمه رَبُه؛ ويُبَرِّئُ "أُم المُؤمنين" المَصون، يَنْهَرُ "أبا بكرٍ"؛ الذي أرادَ مُعاقبةِ صاحِب تلك الفِعْلة الشَّنِيعة؛ ويمْنع مُساعدته المادية له.. فواللهِ ما أحْلَمَك أيَّها العَفُوّ!

بالرِّفق واللِّين امْتلكَ قلوبَ أزواجِه، وبالنِّقاش والرَّوِّية تَعَلمن حَصَافَة العَقل، فكُنَّ له سَندًا في المَشورَة، فيا لَها مِن مَكانةٍ وحُظْوة؛ وهو يَطْلبُ مِن "أُم سَلَمَةِ" أنْ تُشيرَ عليه في "صُلْحِ الحُدَيبِية"؛ لأنَّ أصْحابه اثَّاقَلوا في تنفيذ أَمْرِه بذَبْحِ الهَدي؛ ظانِّين أنَّهُ تراجع عنْ عزْمِهِ الخُروج إلى "مَكة"، فتُشيرُ عليهِ- رَضِي الله عَنها- بِمُباشرَة النَّحْرِ وحَلْق الشَّعْر، فَيَرَونَه؛ فيُسارِعونَ للامْتِثال لأمْرِه، فَسُرَّ الوَدودُ البَشُوش بِرأْيها السَّدِيد، ومَشُورتها المُبارَكةً، لِيُكَذِّبَ مَنْ نسَبَ إليه زُورًا وبُهْتانًا وأجْرَى على لِسانهٍ الشَّريفِ مَقُولَة الباطِل: "شاوِرُهُنَّ وخَالِفوهُنَّ" تاللهِ إنه لكَذِبٌ صُراح.

بلُطْفِهِ حازَ عاطِفَة نِسائِهِ؛ ووضَعَهنَّ في مَكانةٍ لائِقةٍ، واُعْجب بمَشُورتِهنَّ، فَسَعِدن كأنَّهنَّ امْتلكنَ الكَون بأكُفِّهنَّ، مُدْرِكًا معْنى إنْشاءِ أُسْرة مُسْتقرة قِوامها الحُب والاحْترام، وأنَّ اكْتِمال شخصيةِ الرَّجلِ تَتأتَى مِنْ كَرَمِ تَعامُله مَع زَوجهِ، فمَنْ أهانَها نَقُصَت رُجولته وتَدَينه.

لم يَنسْ "خَديجة" -رِضي اللهُ عنها- وكان دائِم التَّباهِي بمُسانَدتها ومشُورتها، حينَ دَلَفَ إليها مُتَدَثِرًا بِدِفْئِها: "زَمِّلوني زَمِّلوني"، رَهْبةً من مَرْأى الوَحي "جِبْريل" عليه السَّلام، فإذْ بالعاقِلة تُبشِّرُهُ وتُطَمئنهُ وتُشيرُ عليهِ بابْن عَمِّها "وَرقة بن نوفَل" ليُثلِج صَدره بأنَّه النَّبيّ لا كَذِب، وأنَّه ما رأى إلا الحَقَّ مِن رَبِّهِ.

أَعْلَى صَراحةً مِنْ شَأوِ "رأي المَرأة"، فجَعلَ فِي يَدِ الثَيّب قَرار زَواجِها، وأعْطي الفَتاةَ الحَقَّ في ألا يُجْبِرها والدُها على الزَّواج رَفْعًا لخَسِيسَتِه، فَيتَمثَّل به "عُمر بنِ الخَطَّاب" ؛ ويسْتَشير ابْنتَه "حَفْصَة" في المُدَّة التي تحْتَملها الزَّوجة إذا غابَ عَنْها زَوجُها، بلْ ويَرْفض بإصْرارٍ ذلكَ المُسْلم الذي أَتاه مُجاهِدًا في سَبيلِ الله، بعْدَ ما عَرِف أنَ له أبَوان؛ فَيقول لَه: "ففِيهِما جَاهِد"، أي لا يَنْبغي أنْ يُجاهِد دُونَما مَشورة أُمِّه؛ لأنها بِحاجةٍ إليه، وكذاك والِدَهُ.

رَفَعَ قَدْر المُسْلمة عامَّة،وأزْواجه خاصَّة، وهُو يُطْلِعهنَّ على أخْبارِه ومَعارِفه؛ لأَجْلِ رَفْعِ قُدْراتِهِن العَقْلِية، فَيَصْلحنَ للمَشورةِ والإفْتاءِ، فَها هِي "عائِشة" يَذْكُرها ابْن حَجَر نَقْلًا عنْ "أبي بُردَة" بِقولِه: "ما أَشْكَلَ عَلينا أمْرٌ فَسَالنا عَنه عائِشةً إلا وَجَدْنا عِنْدها فيْها عِلْمًا"، وعَنْها قالَ "عَطاء": كانَتْ النَّاس، وأحْسَن رَأيًا في العامَّة"؛ وكانَ عُمْرُها حين تُوفِي عنْها الزَّوج الحَبيب لمْ يَتَعَد الثّامِنة عَشْر.

وكيفَ لا يكونُ ذلكَ والهادِي يُوَجِّهُ أهْلَ بَيْته للنَّص القُرْآني الحَكِيم؛ الذي يُعْجَبُ فِيه المَولَى سُبْحانَه بقَولِ ابْنة العَبْد الصَّالحِ شُعَيْب: "يا أَبَت اسْتاجِره؛ إنَّ خَيْرَ مَن اسْتَأجَرت القَويّ الأمِين"... هكذا كانَت مَشورَتها لأبِيها، وهكذا قدَّرها رَبُها فأحْسنَ تقْديرَها؛ وجعلَ قَوْلَها قُرْآنًا يُتْلَىَ آَناءَ اللّيل واَطْرافِ النَّهارِ.

بُعِثَ صَلوات رَبِّي وسلامُه عليه؛ بالعَقيدَة السَّمْحاء، مُتمِّمًا لمكارمِ الأخْلاق، ادَّبَه رَبُه فأَحسنَ تاْدِيبه، فكانَ قُرْآنًا يَمْشي على الأرْضِ، فازَ بالخُلُق العَظيم وأعَزَّ قَدْرَ أصْحابِه، وعَفا عَنْ أعْدائه، وأعْرَضَ عنْ الجاهِلِين، فَرُقِّي وارْتَقى فِكْرُه، ولَطُفَت رِفْقَتُهُ ومَعْشَرُهُ... فمَتى نَتمَثلُ بهِ ونَخْطُو نَهْجَهُ؟
--------------------------
بقلم:حورية عبيدة


مقالات اخرى للكاتب

ترنيمة عشق | إعلام زليخة